"مات عمو صباح"، قالتها أمي بتردد وهي تسبقها بكلمات تمهد لها.
" أعرف أن هذا سيحزنك" قالت بهدوء وهي تحادثني اليوم على الهاتف من حيث لا تزال في الشرق الأوسط، وهي تطمئن علي في عاصمة الثلج والإسمنت.
لن يمر وقت طويل حتى أودع كل من أناديهم بلقب "عمو"، وهو ما ننادي به من نحترمهم ونحبهم كآبائنا. هو صديق أبي، وأخ أصغر لرئيس سابق للعراق، ولكن هذا لم يكن يوماً سبباً في محبتي له. هو بغدادي أصيل، أعني بذلك لهجته، وروحه المرحة ونكاته التي تنتهي دوما بضحكات مجلجلة يسمعها كل من في البيت. كان فطري المرح، بشوش الوجه، حاضر النكتة. تطوف في أحاديثه حين تجلس معه ببغداد العتيقة، بغداد الأربعينات والخمسينات التي كانت تفور بكل ما هو جديد من السياسة حتى الشعر. تسلل الحزن والحنين إلى نفسي رقيقين هادئين كزخة مطر خفيفة في الصباح. بعث هذا الخبر كل الجمر المتوقد الذي كنت أحسبه استحال رماداً، ولكن هيهات. من يستطيع أن يحرق أوراق وطنه ويمضي؟ من يستطيع أن يدير ظهره لضحكات الطفولة، وبسمات الأيام حين كانت الدنيا مقبلة وكانت بغداد دفئاً لا ينتهي وحضن أم يسبغ عليك من الحنان ما لا تشعر به حتى تفارقه.
"مات عمو صباح"، جملة قد تبدو جزءاً من الحياة لو غيرنا الاسم، وبالذات في العراق فالموت أضحى جزءاً من حياتنا أكبر مما كان عليه، ومما يجب أن يكون. جملة واحدة، وربما كلمة أحياناً، قادرة على أن تعيد كل ما مضى من الحياة إلى الحياة. كلمة الموت تحيي الكثير في نفوسنا، وخصوصاً لمن ظن أن وطنه قد مات وأن ذكرياته ليست سوى صور باهتة بالأبيض والأسود لن تصمد طويلاً أمام رياح الزمن وثقل خطواته.
دلفت إلى المطبخ بعد انتهاء المكالمة، أعددت لنفسي قدحاً من الشاي بالهيل، وجلست أرتشف وأسكب كل ما بداخلي على الورق. مشاعر متدفقة من الحنين والحزن والسؤال الذي ما فتئ يعصف برأسي منذ استحال وطني إلى صندوق كبير بعد أن كان سهلاً أخضر: لماذا تموت الأوطان؟ هل تموت حقا أم أنها تشيخ معنا؟ هل تكبر ونرفض، كما يفعل الآباء والأمهات، إلا أن نراها كأبنائنا طفلاً صغيراً لما يكبر ولا يزال يرتدي الشورت ويحمل حقيبة المدرسة على كتفيه؟ رشفات الشاي تذكرني بتلك الجلسات مع عمو صباح، وغيرهم من أعمامي، أي أصدقاء أبي وأقربائنا، ممن كانوا يشاركوننا جلسات العصر على وقع صوت المبردة في أيام الصيف ببغداد، أو قرب مدفأة عشتار وصوت إبريق الماء يغلي عليها وهو ينضج شاي الأماسي الباردة في الشتاء. الشاي وقتها كان له طعم مختلف، رنين الاستكانات كان يؤذن بعودة النشاط إلى المنزل بعد قيلولة الظهيرة، ويشي كذلك بقدوم ضيف عزيز للزيارة والمسامرة مثل عمو صباح.
أعرف أني سأسمع الكثير من الأخبار المشابهة يوما بعد آخر، هذه هي سنة الحياة ولكن ما أقساها ونحن بعيدون. الموت له معنى آخر ونحن خارج تراب الوطن. هو موت من نوع آخر يذكرك بما فقدته من حياة، ويحيي ما ظننته قد مات. هو موت يستل ذكرياتك من أرشيفها المغبر، وينفض عنها تراب السنين ويعيدها صوراً بالألوان وبالصوت الصادح بأقصى ما فيه من قوة. أذكر الوجوه تلو الوجوه، منهم من غادر ومنهم من توفاه الله، ومنهم من اختفى تحت جنح الزمن البعيد.
من حديقة عمو صباح كنا نأتي بأطيب أنواع التمور، من تلك البرحية الشامخة في آخر البيت كنا نعود إلى منزلنا فرحين بما أحضرناه طازجاً من بين سعف النخلة لا من السوق حتى وإن تشابهت الأنواع. " من نخلة عمو صباح"، هكذا نقدمه لأحبتنا متباهين بأنه تمر منزلي. وهكذا كنا مع آخرين، نغير الأسماء كلما أتينا بنوع آخر من تمور البربن أو حاج عمران أو السكري. نخلته هناك لم تمت بعد، ولا زالت تحمل كل موسم بالتمر الذهبي المميز. ذهب عمو صباح ولم تذهب النخلة.
اليوم موعدنا مع نغمات نصير شمه الذي سيعزف في المتروبوليتان في نيويورك. جاءني الخبر وأنا أتحضر للذهاب برفقة الأصدقاء. كم هو غريب حين يوقت القدر أحكامه كمايسترو بارع. ستكون بغداد اليوم في كل مكان، في أوتار عود نصير، في وجه عمو صباح، في كل خلية من جسدي.
قال درويش يوما : أحن إلى قهوة أمي، وأنا أحن إلى حضنها كثيراً. إلى ضحكاتها الرقراقة في الليالي على دجلة، إلى صباحها المورق على روائح الياس والقرنفل، إلى عبق الثيل الأخضر بعد أن يرش بالماء في الأماسي. ذهب عمو صباح إلى حيث أريد أن أذهب حين يحين العناق السرمدي مع الأرض. حينها أود أن أتنسم رائحة الثيل كل صباح.
وداعاً عمو صباح، وقبلة على وجهك يا بغداد، فأنت كالبرحية لن تموتي.